ازدحمت الأسواق وامتلأت الأرفف بالألوان، تجارة رابحة وترويج مستغل حينما تكون المشاعر هي العملة السائدة بين الناس.
إنه يوم تشرق فيه الشمس تداعب عيون الأمهات الحيارى الحزانى، إنتظار بعد غياب، وألم يزيد من الأم، ونقطة ماء تذكر الظمآن بطعم الماء، وشعاع نور يظهر ثم يختفي، وميض يخترق القلوب ليترك فيها ذكرى تعاود بعضها وتحكي الماضي الأليم والحاضر المبكي.
إن مقومات الحياة ثوابت معلومة، وركائز الدين مشبعة لا تقبل الزيادة ولا يعيبها نقص، إنقياد تام وإستسلام مطلق، يشبع رغبة القلب التي لطالما ظمأت لتروي شهوة النفوس الخارجة عن نطاق الإسلام..
أعياد هي ليست معان يضفيها القلب على الحياة وليست تضيفها الأيام على القلب بل إنه تكامل بين كليهما وبين الكون بأسره، وما من يوم يقدره الإنسان ليبتدع عيدا ويوافق ما بين قلبه وأيامه ليشبع ثغره السعادة التي لطالما نقصت من ضعف الإيمان.
إن كل بدعة ضلالة وما إبتدع الإنسان شيئا أعظم مما أبدعه الخالق عز وجل وما كان لنفس أن تحيا بمنهاج أو تموت على يقين إلا كتابا يلقاه منشورا.
لكم إعتدنا ونحن صغارا أن نكتب عن عيد الأم مديحا وإعجابا، لكنني اليوم أراه من منظور آخر، منظور غير معتاد!
الآن يبين لي إن ما يسمى بعيد الأم لهو معاناة ومأساة كبيرة، وتجربة حياتية مريرة توقظ لهيب الحزن في قلوب أمهات عديدة وتدوس على لوعة الإشتياق لكل أم فقدت وليدها بينما تسمع أصوات الجيران يغنون لأم لهم وهي تبكي في صمت مرير!
لكل أم إبتلاها الله بالحرمان من البنين وقد لازم الحمد لسانها ورضت بالقضاء وصبرت على ما أصابها، يأتي صنع إنسان ليثير بداخلها المشاعر المكبوتة والروح الإنسانية الطبيعية الموقوتة في قلب كل أم ترتجي ولدا.
لكل أم كان لها ولد عاق نظرت إليه في حسرة ليهديها كل يوم صرخات تدوي في القلب الضعيف لتهز أوتار المعاناة، فنظرة إلى السماء ودمعة على الوجه كافية للتعبير.
لكل عظيمة كانت أما لشهيد تضرب بإبنها المثل، تلقت التهاني والتعازي المغلفة باليقين يوم أن جاءها خبر ولدها، وأنساها الزمان بعض الألم وأعانها الله بقيمة الشهادة على الصبر، ليأتي عليها يوم دنيوي تشعر فيه بالزلزال من جديد!. جرح ينتاب القلوب ودموع لزمت مجرى الوجوه.
إن الحياة بأسرها والساعات والثواني ودقات القلوب وتعداد الأنفاس لو أنفقت ما في الأرض جميعا لتطأ به منزلة الأمومة وتضع هدايا الكون على أعتابها ما بلغتها، جل المقام وعلا القدر وسمت المنزلة.
إن ما يحدث لهو إيلام لقطاع كبير جدا من الأمهات فاقدة الابناء حقيقة أو مجازا، وتكسير للقلوب ودغدغة للأمل لدى هؤلاء الأمهات، إن الإنسانية الرفيقة والعقلانية الحكيمة -وليس الشريعة العظيمة فحسب- لتقف إعتراضا على يوم مثل عيد الألم.
ليس عيد الأم غير فكرة تاجر، حيث تتضافر كل وسائل الإعلام بكل جهودها فى إيلام هذه الفئة وتلقيهم في زنزانة الحبس الإنفرادي وكذلك المتاجر والمحلات التي تصدح ليل نهار بالأغاني فتحز في نفس كل من فقد أمه وكل من فقدت وليدها.
إن الكارثة ليست كارثة أمهات فحسب، إنها كذلك كارثة أطفال يواجهون التدمير النفسي في مرحلة تنشئة الشخصية وتكوين الهيئة النفسية لديهم.
إن فاقدي الأم لهم أعداد كبيرة جدا، سواء أكانوا فاقديها حقيقة أو معنى، إمتلأت الملاجئ ومؤسسات الأحداث بكارهي أمهاتهم ما دفع بهم إلى ذاك المكان، وآخرون يكرهون الأيام التي ألقت بهم في ذاك المكان، وآخرون يبكون أمهاتهم ويدعون لهم بالرحمة..
وفي كل الحالات إنها دمعات طفل صغير لامست منديل الإنسانية فجرحته، أرادوا أن يخيطوا المنديل فأسموه -بيوم الأم- لينزلقوا من تحت عائق الدين وحكم الإسلام في الأعياد فما أغنت عنهم محاولاتهم، فلا يخاط المنديل ولا يلتئم الجراح في الصدور الصغيرة.
إن شعور الابن حين يذهب إلى أبيه ليطلب منه نقودا لشراء هديه لأمه حيث يقتضب وجه الأب الذي لا يمتلك قوت يومه في جيبه!.. شعور بالخجل وبالتصنيف بين الناس لا يرضاه عز وجل لعباده أبدا..
إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولا يمكن أن تتساوى لحظة ألم واحدة أو دمعة تترقرق في عين سيدة لا أبناء لها أو في عين طفل صغير أو كبير فقد أمه، أو يتيم يرى بأم عينيه صديقة يقدم لأمه الهدية لتقبله وتأخذه في أحضانها.. لا تستوي المشاعر بالدموع أبدا..
إن القلوب الكسيرة لا تتحمل مزيدا من إنكسارها، حتى نذكرها بكل لحظة مرت عليها حرمت فيها من اعز ما في حياتها..
إن إحتكار بر الوالدين من أيام العمر المعدودة وبيعة في يوم واحد هو كبيرة بكل المقاييس، إحتكار للمشاعر، إحتكار للقلوب، بيع وشراء للعواطف.
المشهد يزداد مأساوية، وسائل الإعلام التي برعت في اصطياد الزبائن بالإعلانات الجذابة المروجة للسلع الكاسدة بعد تغليفها وكتابه عليها -لست الحبايب-!، ثم يأتي الإعلان المشهور هدية ست الحبايب عمرة رمضان، التي نظرت إليه أم عقها إبنها، ولا تعلم من سيرعاها في كبرها حيث لا راعي لها غير الله، حتى يهديها عمرة رمضان، ولد لم يطق منها طلبا لكوب ماء!.. أم ولد قد استغل الحنان في إستنزاف ثروات الأمومة.
ربما هؤلاء الإعلاميون الذين يبالغون في تزيين عيد الأم هم أبعد الناس عن برها طوال العام!
لله في خلقه شؤون، وما ميز الله عبدا عن عبد إلا بالتقوى، لقد حرم ما يبث في القلوب من مرآة التمييز الدنيوي بين الناس، والتعالي على الآخرين بنعم هو وحده سبحانه من أنعمها عليهم، والتفاخر بالمال والبنون اللذان زين الله بهما الحياة، ابتلى البعض بكثرتهم وابتلي البعض الآخر بالحرمان منهم.
حقا هناك -عيد- للأم ولكنه ليس في التوقيت المزيف المشهور.. إنه يبدأ مع بداية العمر وينتهي حينما ينتقل احد الطرفين إلى الرفيق الأعلى، هذا هو عمر الأم وليس عيد الأم، إن الإحسان إلى الوالدين الذي إفتقدناه في عصرنا الحالي لهو الدواء الشافي لفجوة ما اسموه خطا ب -عيد- الأم.
قبلة تضعها على جبين أمك صباح يوم ما، خير عندها من الدنيا وما فيها، وما كانت أمي خادمة ليحل بها يوما لتأخذ مني أجرها، فنحن العاملون وهي الآمرة ونحن الطائعون وهي الأميرة، ونحن المنفذون وهي القائدة والمربية، وإن الأجر أجر الآخرة.
إن -عيد- الأم ليس إلا تقليدا أعمى للغرب الذين لطالما سعوا إلى تحديد كل شيء جميل وتحجيمه في ثوان تمضي، إن القلوب الحية التي تنبض بحب الأم تلعق تراب قدمها الثمين وتجد الحلاوة في الخضوع لها لتقبيل يدها وتتزين الحياة في ثوب جديد حينما تنزل إلى العمل بدعوات متتاليات من قلب صادق ليس بينها وبين الله حجاب.
ظاهرة عارية تتزين في ثوب مزيف يجب فضحه، فوعدا أماه، سأجعلك تنسين موعد هذا اليوم حينما يصبح عليك كل يوم شعاع الشمس الذي يطل عليك ليذكرك بجمال اليوم الذي قبلة، ولتفتحي عينيك لتتقبلي قبلتي على جبينك مرة ثانية، سأجعلك ملكة من ملوك الدنيا ببري لك، وسيدة من سيدات أهل الجنة بعملي وإحساني فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
إنها قصة شاب وقف حياته لله، وسعى في إرضاء أمه، وخفض إليها جناحه، وتواضع بهامته.. وانحنى كي يضع قبلته على قلب أمه، فترفعه أمه وتضمه ضمة يتقلب لها الفؤاد سعادة في الدنيا والآخرة.. إنها قصة شاب أقسم أن ينسى أمه موعد -عيد الألم.
الكاتب: هشام خالد.
المصدر: موقع المسلم.